وجدها في عزلته بقلم الاستاذ محمد علي صدقي

 وجدها في عزلته.

أسمه سعيد، لكنه في حياته، غير سعيد البتة. يرى أن البؤس أناخ عليه بكلكله.. وأن نظرات الاحتقار توجه أليه من كل حذب وصوب.. وأن سوء الحظ واقف له بكل طريق.. أنسان لم يعد يدري هل هو من أسخط حياته أم هي من أسخطته.. 

ذات يوم، وهو راكب في المصعد للنزول من بيته بالطابق الخامس، انقطع التيار الكهربائي.. انطفأت الأنوار.. توقف المصعد.. انكمش الرجل على نفسه كقنفد شعر بخطر يقترب منه.. استولى عليه الخوف.. شعر وكأن المصعد لم يتوقف بل أخذ يهوي به في قعر سحيق.. أحس وكأن المصعد لا زال مستمرا في نزوله، لكن ليس إلى الطابق السفلي بل نازل به الى أعماق ذهنه.. أحس وكأنه يخر من السماء.. أو كأنما تهوي به الريح.. تزاحمت الأفكار في ذهنه.. وكفلم طويل يمر أمامه، افتكر موت أمه وهو صغير.. افتكر مشكلات الطفولة والعنف المنزلي.. افتكر ضرب أبيه له و نعته بالحمار كلما خفق في عمل كلفه به.. افتكر قمع زوجة أبيه و احتقارها له.. بين خلايا ذهنه، رماه المصعد، أحس وكانه ألقي به في غابة كثيفة.. وجد نفسه كضائع بين زحمتها.. إندهش من كثافتها.. تعجب مما منحه الله إياه من خلايا تفوق مائة مليار خلية متشابكة ببعضها البعض.. تعجب من قدرة خارقة يمتلكها و لم يستطع استخدامها لتسيير شؤونه، طاقة لو أحسن استثمارها وفعَّلها لأصاب كل أهدافه.. 

وهو يتجول بين ثنايا هذه الخلايا، التقى بالخوف في ركن من أركانها.. سأله:

لماذا تطاردني دائما أيها الخوف؟ لماذا تعكر علي دائما جو حياتي؟ أجابه الخوف:

كيف أطاردك وأنا لا وجودا لي أصلا إلا عندما توجدني أنت.. فأنت من تخلقني.. كل مرة ترجع فيها إلى ماضيك البئيس وتفتكر مشاكلك النفسية فإنك تنفي نفسك و تسلمها لي أعبث بها كيف أشاء.. أجابه سعيد:

كنت أظن أنني أحمي نفسي حينما أخاف.. أجابه الخوف:

نعم. ويكون هذا عندما تعتبرني خوفا طبيعيا، لكن عندما تضخمني زيادة، فأنت تجعل مني فوبيا (phobie) تقتل بها نفسك.. نظر سعيد اليه، ثم خاطب نفسه:

فهمت. كل ما مضى من عمري كان إذن هو قتل نفسي بدل حمايتها...

ترك سعيد الخوف واستمر يتجول بين خلجات خلايا دماغه فإذا به يلتقي بالأحتقار. نظر إليه بوجه مكفهر.. عنفه.. اشمأز منه.. رد الاحتقار على تصرفه بقوله:

لماذا تنظر إلي هكذا وتلومني؟ لُمْ نفسك. فما أنا سوى صورة أنت من يصنعها بخوفك الشديد من ذاتك، وغضبك منها، واحتقارك لها.. فأنت عندما كرهت مجتمعك وعائلتك وطبقتك، جعلت من هذا كله صورة نمطية قاتمة فأصبحت كلما نظرت إليها احتقرت نفسك وأنت بتصرفك هذا سترى دائما نفسك صغيرا والآخرين كبارا.. فما دمت خانعا راكعا أمام الآخرين فإنك تقزم نفسك فيكبر في نظرك كل من حولك... 

حك سعيد رأسه وكأنه يفكر في شيء، وتبين له أنه لم يمنح نفسه يوما ما تستحقه من قيمة. تيقن أن ما وصفه به الاحتقار، هو فعلا يتصف به.. ضحك على نفسه.. ترك الاحتقار واقفا ينظر إليه ومشى يتجول بين منعطافات خلايا ذهنه فإذا به يجد الحظ في حلة مبهجة، مستبشرا نشيطا بين تلك الخلايا التي تحيط به. قال له:

أراك أيها الحظ نشيطا مستبشرا هنا، و معي أنا، تكون في أسوء حالك. أجابه الحظ:

لا تقل هذا، فأنا لست سوى مجرد أمر مرتبط بالفرص العشوائية و التفسيرات المتعلقة بإيمانك أنت، و بما تعتقده أنني يمكنني جدبه لك. فما تؤمن به من خرافات تمجدني عند من وصلوا بجهدهم هو من يجعلك تظن أن لي في الأمور دخل. أنا لا أمثل إلا جزءا ضئيلا مما يناله الانسان من تحقيق الأشياء في حياته.. أنا واحد في المائة منها فقط و الباقي هو كد و جد وعمل واجتهاد منه... 

رجع التيار.. اشتعلت الأنوار.. تحرك المصعد نحو الأعلى.. فاق سعيد من غفلته.. رجع إلى صوابه.. اعترف بخطئه و بسوء تسيير حياته.. عرف أن لا خوف في الحياة إلا الخوف من الله، ولا احتقار يكون فيها إلا ما أراده هو أن يكون احتقار لنفسه، ولا سوء حظ يفسد الأهداف إلا ما بناه هو بكسله و اهماله لما حباه الله به من طاقة ومن عقل يفوق عقول سائر المخلوقات.. تيقن أن العقل هو لجام الحياة، إن قادها به، أفلح ونجح...

أحمد علي صدقي/المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انا بالسعد موعودة بقلم الاستاذة شرين ابو عميرة

فاض البيان من صبري بقلم الاستاذ/ة ميسرة عليوة

شاطئ الغرام بقلم الاستاذ أحمد أبو حميدة