شم الجراح بقلم الدكتور هاشم الموسوي

 شم الجراح

د.هاشم عبود الموسوي

قبل الرحيل

من ذا يُبعثر لي رمادي

كي أرى كيف احترقتُ

ولم أُنرْ

لأي صرصارٍ طريقهْ

في اللانهاية

قد تكون هي النهاية

فأموت مقتولاً ومولوداً

بيومٍ واحد

وأنا أدري بأنّي

لستُ أوّل مشبوه

تُطارده الذنوب

وأنا لستُ سوى غيمٍ

بصيفٍ عابر

لم أعد أذرف دمعات عزاء

فمتى يأتي إلينا

قرع يوم الآخره

***

كان لي.. في الحقل

بين الشجر الوارف بيتٌ

قد حباه الله سحراً

كانت الأغصان من شباكه

تسرق كأساً

تشرب الأشواق فيه

كان همساً خافتاً

حلواً بأعماق القلوب

كل صبحٍ، كان لا يدري

متى يأتي المساء

وصهيل الخيل تشتاق إليه

في الغروب

إنها تعرف

للفرحة معنى

ومتى ترقص جذلى

ومتى تعدو بأسراب المُحبّين

إلى شمس الجنوب

كان في البيت

سراجٌ وأحبة

لم نكن نعرف غير الله

يأتينا بخيرٍ ومحبة

***

وغفلنا، ونسينا

أنَّ للدهر دواليب تدور

عندما يأتي بلاء

سيكون الحزن

داءٌ ودواء

يا لنا من بسطاء

تصنع الأوهام من أحلامنا

أوسمةً فوق الصدور

إنني أجهل من يحمل عنّي

وِزر كل الموبقات

وِزر لهوي وحنيني

عندما كُنتُ صغيراً

عابثاً بالظلِّ تحت الشرفات

كيف عشنا، كيف نمنا، كيف متنا

كيف كُنّا نقطف الأثمار والماء زلال

كلّما غطّت سماء الأفق غيمه

تخرج النسوة

يُحبّون إلى النهر العتيق

خلف أسوار المدينة

ثم يغطسن بماء النهر

ينذرون النذور

"هذه أصلابنا.. هذه أرحامنا

ليتها تنعم بالمزنة

في صيفٍ شحيح

من سيأتي يزرع البذرة فيها

من سيسقيها بشوقٍ

فوق شوق الناس

في كل العصور.."

فهي ذي مُرهقة

عندما يأتي المساء

تأتي بواكير الطيور

إنها تعبى من اليوم الذي

يُشبه أياماً كثيرة

وهي لا تدري بما يجري

على رقعة شطرنج تعوم

عند بحرٍ من زيوتٍ ودماء

وحضاراتٍ قديمة

***

ذات ليلهْ

جاءنا ريحٌ من الصحراء

صَرْصَرْ

فبكت كلّ النجوم

وهوت أشجارنا غصناً فغصناً

كيف تأتي العاصفة؟

وتهزّ النخل تجتاح الجذور

وشهدنا القمر الذابل يبكي

صارت الليلة ظلماء.. حزينهْ

ثَمَّ من يدري، فقد يطلع

صبحٌ بعد حين

وذهلنا كيف جاءت آلهة

لم تكن من أرضنا

ضاجعت كل النساء

أغرقت أسواقنا خمراً وتُفاح خطيئهْ

***

طائر الحناء

لا تبكي

على شُبَّاكي المُقفل

في وجه المساء

الرياح.. هي الرياح

ولِمَ البكاء؟

إن كُنتُ أنسى.. فلتُذكّرني

وتمنح قلبيَ الخائف

شارات الأمان

أُواهُ لو أدري بأنّكَ

قد تكفّ عن البكاء

لنزعتُ أقنعتي

لأكشف عورتي

ولا أخشى على عيْني

من نحلٍ يُباغت بالشرور

إيَّاك يوماً أن تُسافر

ألا ترى عين الحقيقة

مثل طيفٍ باهتٍ صرنا

ولا اسم لنا

نكتبه فوق القبور

وتُبعثرنا شتاتاً

في أراضٍ وبحار

من سيأتي بعدنا يبكي

على سومر.. يشكو عقمها

يا أخوتي المتوزّعين

على الأراضي والبحار

فلتكتبوا اسم العراق

على صخور الأرض

أو فوق الجبال

ولتحفروا حروفه

بكل أشجار المنافي والضياع

صلّوا على تاريخكم

ولترفعوا الشكوى لكل الآلهة

من زمانٍ

لم تعد تسمع شكوانا

وتهدينا إلى برِّ الطريق

منذ أن صرنا

بعيدين عن الحقل

ومات الحُلم في أحداقنا

صارت الأطيار لا تأتي

إلى أنهارنا

ونسينا أن للطير غناء

***

إنَّني ذوّبتُ من عمري

ثمانين من الأقراص

في الماء هباء

بيد أن الماء لا يشفي غليلاً

صارت الأنهار حبلى

بالطحالب

لم أعد أسمع غير الناس

تبكي

وأرى سومر تخشى أن تباع

شبّت النيران في العُشب

وأعذاق النخيل

مدّت الأثداء

نحو الأرض عجفاء

فلا في الأرض من ماءٍ يُجير

وشهدنا الآلهة

بعد ريحٍ عاتيه

وهي تهرب

تحمل التفاح والخمر..

عطايا، ودماء الفقراء

إنها معجزة لو ينتمي

الله إلينا

إننا جمع كظيم وبقايا يائسين

كيف لا يؤلمنا هذا الكلام

فيصبّ العرق البارد

من كل الجباه

***

إنني من كل صوب

أشهد الأشجار تهوى

حمم النيران تجتاح البراري

ونجوم الكون

قد فرّت عن الأفلاك

ناسيةً مداها

وبحار الأرض فارت

فاض من ماء الخليج

على المزارع والحقول

مراً من الملح

المُعلّق بالشفاء

ونهد أمي جفّفته الريح

ولا يقطر دمعاً في المنافي

ومن الكحل المعتّق بالقبور

صرتُ أقتات بذرات الرماد

عندما تحترق الوردة

لا تنثر من ميسمها

غير الرماد

عندما حملوا الرفاة

مُشيّعين عظامنا

نحو المنافي والضياع

أحضرت تابوتاً ألم به

رفات كل الأنبياء

ما عاد بالأرض

إمامٌ صالح يُقنعني

كي أُصلّي خلفه عند الوداع

آهٍ لو تحترق الأرض

وتأتينا القيامه

***

إنني أسأل في سرّي

ويُضنيني السؤال

كيف لي أن أعرف..

القبر الذي أُدفن فيه

أهو في ضفة نهرٍ..

أم بعيداً في الجبال

أم أن أرضاً

قد تُباع مع الحقول

ستلمّ زيتاً من عظامي

وتضيع أحلامي

مع الصفقة في جيب المتاجر

هكذا أصبحت كالنمل الذي

يحلم صبحاً بالحياة

ثم ينسى في المساء

أنَّه بالأمس مات

ليس لي من أمنيات

لم أزل أغرق في حلمي

بأن الراحلين

ربما يوماً.. يعودون إلى أوطانهم

يزرعون الحقل بالشوفان

والحب وأشواق السنين

فوق أحجار القبور

يكتبوا القصة للأجيال

كم جيلٌ سيأتي؟

أي قبرٍ من قبور الأولين؟

يكشف الأحفاد فيه

سرّ لغزٍ غامض

قبل أن نغرق في البحر

ولا نأبه للبر

وما يجري عليه

***

لو عرفنا اللغز من تلك السنين

لم نكن نغرق في غيبوبة

سائلين الله أن يأخذ

أرواح الطغاة الجاحدين

كلبنا نام بباب القصر

والأعوام تمضي

ربما كنا سنختصر المسافه

وقتما نولد بعد الألف العاشر

من موت الحياة

لا نرى من أحد يعرفنا

أرضنا بكرٌ جديده

سوف لا نأكل تفاح الجدود

لتعود القصة الأولى

وأسماء الطغاة..

والضحايا الأبرياء

***

عندما يحفر قبري

عالم الآثار

لا يلقى الدموع

في ثنايا الأرض

تعطيه دليل

***

ما لهذا البلد المأسور

بالدهشة

لا تأتي إليه الآلهة

من عهود غابره

كم من الأقوام قد مرّت عليه

وصدى الأبراج في بابل

يجتاح الظلام

سبع آلاف من الدميات

كنا قد صنعنا

ثم عاثت بعباد الله

والأرض فساداً

ثم ماتت

وبقينا نزرع القمح

ولا نجني الثمار

قبل أن يوجد في "نيبور"(*) كوخ

من جذوع الشجر الميت

أو سعف النخيل

منذ ذاك الحين ضجّت صرخة

في قلاع الأولياء

بضع آلاف من الأصنام

قد مرّت علينا

وأكلنا بعضها

بعضها الباقي تحصّن بالقصور

كانت الدنيا تدور

ويجيء جلاد، ويذهب آخر

نحن ما زلنا على مر العصور

نذبح الأطفال

قرباناً فقرباناً

لكي نبني القصور

ما لهذا الشجر المُثقل بالأحزان

لا ترتاح منه الآلهة

ربّنا إنّا رمينا

كل أصنام المدينه

وحرقنا كل ما كنا كتبنا

ونسينا كل ما كنا قرأنا

ثم عدنا

وسبحنا في الدماء

ربنا كنا رعاع

وبقينا مثلما كنا خلقنا

ربما تغفو على الخيل الجراح

كم سكبنا.. في ا


لوسادات

دموعاً، وأماني

وحلمنا.. ربما تزهو بنا الأيام

من بعد النشور

غير إنَّا قد ذوينا

وجروح الأرض

قد صارت عميقه

لم نعد نسمع صوتاً للخيول

وانتهى ذاك الصهيل

وانتهى ذاك الصهيل

(*)

نيبور: أول تجمّع بشري (حضري) في تاريخ البشرية، وقد وجد قبل سبعة آلاف عام على أرض العراق.

د.هاشم عبود الموسوي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انا بالسعد موعودة بقلم الاستاذة شرين ابو عميرة

فاض البيان من صبري بقلم الاستاذ/ة ميسرة عليوة

شاطئ الغرام بقلم الاستاذ أحمد أبو حميدة