الضربة القاضية بقلم الاستاذ محمد البوركي
الضربة القاضية
سكون الليل يغري باقتراف فعل الكتابة ، أدوات الاشتغال جاهزة : أوراق بيضاء ، قلم حبر جاف ، ذهن صاف ، فنجان قهوة سوداء ، علبة مناديل ورقية ناعمة . نسيم ربيعي عليل يدلف من النافذة المشرعة . الزوجة و ابنهما خارج البيت : هي في زيارة خفيفة لأمها و هو اصطحب صديقا له . قلما تتاح هذه الفرصة الذهبية ، اقتنصها ، و شرع يدون ما تمليه عليه مخيلته :
( قصة قصيرة عنوانها : هدنة غير معلنة )
زوجان يستظلان سقفا واحدا ، ذاقا الحلو و المر؛ حين يلتقيان تفيض مشاعر الألفة بينهما ، و تحلق فراشات السعادة فوقهما ، و عندما يخرجان تتشابك أيديهما و ينصهران أمام الآخرين الذين يغبطونهما و يتمنون أن يكونوا مثلهما ، و لكن الحقيقة غير ذلك ، هذا بيانها :
المكشوف :
خاطبها متوددا مبتسما:
" أنت أجمل امرأة رأتها عيناي ، يا توأم روحي ، أهواك حتى النخاع يا زوجتي العزيزة ".
المحجوب :
رددت في أعماقها وهي تكظم غيظها:
" عليك اللعنة أيها الخبيث المخادع ، متى تنقلع من حياتي لأرتاح و أتحرر ، لا أطيق رؤيتك و لا سماع صوتك ".
المكشوف :
أجابت بصوت حريري يذيب الصخر:
" أنت بلسم جراحي ، يا سيد الرجال ، يا سندي ، فداك دمي " .
المحجوب :
ناجى نفسه حانقا تصطك أسنانه :
" سحقا لك، وجودك في حياتي غلطة كبرى ، أتمنى لو تموتين لأتزوج من اصطفاها قلبي ".
حين يطرأ سوء تفاهم تافه بينهما ، يطفو الباطن على الظاهر، و تندلع الحرب الباردة ... "
رن الهاتف ، من الطرف الآخر سمع من يخبره أن ابنه الصغير في قسم المستعجلات بالمستشفى ، إذ تعرض لحادثة سير خطيرة ، و أن حالته حرجة تدعو للقلق . سقط القلم من يده ، اسود ما حوله ، ترك الورقة على المنضدة ، خرج لا يلوي على شيء ، ارتمى في سيارته ، و قادها بسرعة جنونية ، عندما وصل ، اتجه نحو مكتب الاستقبال ، قدم لهم المعلومات ، أخبروه أن ابنه في قسم الإنعاش و ليس مسموحا له برؤيته . تهاوى على أقرب مقعد ، أحس بزلزال ينسف جسمه كله ، ألم حاد في الرأس و خفقان شديد في القلب .
بعد ساعة خالها دهرا ، نودي عليه و تم إخباره بالصاعقة التي لم تبق و لم تذر : لقد فارق الحياة ، فلذة كبده . أحس بشلل تام في أطرافه ، تخشب لسانه ، أطلق العنان للدموع تهمي من عينيه .
في غمرة الفجيعة ، أضاء هاتفه المحمول ، ثمة رسالة إلكترونية موجهة إليه ، دقق النظر ، إنها من زوجته ، مرفقة بنص " هدنة غير معلنة " :
- اعترفت عن طواعية و طيب خاطر بما كنت تضمره طيلة سنوات عشرتنا أيها المخادع اللئيم ، الآن حصحص الحق ، أيها الثعلب الماكر . ما كتبته حجة دامغة على نواياك الخبيثة ، لقد نصبت كمينا فسقطت فيه ، انتهى ما كان يجمعنا ، و لم يعد لك مكان بيننا .
بيد مرتعشة نقر:
- هدئي من روعك سيدتي ، ما دونته محض خيال و لا يمت بأدنى صلة لحياتنا الزوجية السعيدة ، أنا كاتب ، في قصصي أشيد عوالم لا تحيل مباشرة على الواقع المعيش الذي نحياه ، كما أنني لست بصدد كتابة سيرة ذاتية ، لا بد من التمييز تفاديا للالتباس.
جاءه الرد ، فورا :
- من سيصدقك أيها المنافق الكذاب ، وداعا .. وداعا.. لقد تركت لك الجمل و ما حمل ، هنيئا مريئا. ثم أقفلت الخط .
تخبط في مفازة الحيرة و الأسى ، و اندلقت من لسانه كلمات ميتة تناثرت شظايا تلاشت في الفراغ :
" أما تعلمين مصير ابننا الوحيد ؟ أتنكرين الجميل و تتشبثين بالوهم ؟ عودي إلى صوابك ، سامحك الله .. عودي أيتها التائهة .. "
بقلم
: محمد البوركي - المغرب
تعليقات
إرسال تعليق